أراء وقراءات

تأمُلات مُسافر (1) القيد.. بقلم : الدكتور أمين رمضان

صورة تعبيرية

انطلقت من رحم أمي للدنيا محاطاً بخليط من مشاعر الحب والخوف وغيرها، أو إن شأت فقل أن نهر المشاعر كله كان يجري بين ضفتي الخوف في صخب شديد، منذ الولادة وحتى فارقت أمي الحياة، رحمها الله رحمة واسعة.

وهكذا كانت حبال الخوف، التي لا يراها الناس، تلتف حول أقدامي لتكبلها عن السير والانطلاق في الحياة، وحول عقلي لتلغي أي فكرة تراودني بالسفر خارج حدود هذا الخوف والحب، وعندما التقى حبي الكبير لأمي مع حبها اللامحدود والغير مشروط لي، أصبح خوفها سوراً عاليا أتحرك داخله، ولا أستطيع القفز فوقه، ناهيك عن تحطيمه، لأنه أصبح جزءاً منها ومني.

في عام ١٩٧٣م تقريباً، منحتني جامعة الإسكندرية عقد تدريب في شركة بترول بطهران، بسبب تفوقي الدراسي حيث كنت الأول على دفعتي دائماً، جاءت الفرصة على كف الأمل، لكن بكت أمي بحرقة، لم أتحمل دموع خوفها، آسف، أقصد حبها، فأعطيتها العقد لتطمئن وألغيت فكرة السفر، وضاعت الفرصة.

كان دعاء أمي الدائم أن تكون حركتي كلها قريبة جداً منها، لتطمأن عليا، وكنت دائماً أمزح معها وأقول: “ما تربطي رجلي في رجلك بحبل”.

حتى عندما كنت أبحث عن زوجة بعد تعييني معيداً بكلية العلوم – جامعة الإسكندرية، كان همي الأكبر هو البحث عن زوجة لا تشعر معها أمي بالغربة، رغم الفرصة البراقة والخادعة للخروج من السور إلى عالم آخر، حتى ولو كنت بروازاً فقط، لكن كانت القيمة العليا في حياتي هي أمي، وما زالت حتى بعد رحيلها.

لذلك كله جاءت هذه التأملات متأخرة جداً، والانطلاق في عالم السفر مدفوعاً له أكثر من كوني مخططاً له، جاء وكأن السور الذي أحاط بي تحطم، كما تحطم سور برلين، لكن بعد أن أصبحت في منتصف العقد السادس من العمر، وصار لسان حالي يقول كما قال الشاعر أبو العتاهية: ألا ليت الشباب يعود يوماً … فأخبره بما فعل المشيب.

لكن في النهاية سافرت في أول رحلة سياحية إلى ماليزيا وعدت منها منذ أيام فقط، فتجمعت في رأسي المشاهد كلها، مشاهد الإسكندرية حيث نشأت وترعرعت وتعلمت وعملت، ومشاهد الظهران بالسعودية حيث عملت بجامعة الملك فهد. تجمعت المشاهد داخلي لتمتزج بالتاريخ والجغرافيا والمعرفة، وصار عقلي كأنه قدر يغلي ليمزج الخليط في عناوين تتصارع داخله لتخرج على الورق، وجبة إنسانية وليس سيرة شخصية، فذواتنا تفنى، وتبقى الرسالة الإنسانية خالدة.

وأول رسالة: انزعوا القيود التي حولكم لأنها وهمية، ولا تقيدوا غيركم بقيود وهمية

الدكتور أمين رمضان
aminghaleb@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.