ترامب وعقدة الصوابية السياسية المطلقة.. قراءة في أيديولوجيا الفوضى المقنّعة

بقلم / مدحت سالم
**مدخل إلى الفوضى السياسية في نهج ترامب
إذا كان التاريخ السياسي قد علّمنا شيئاً فهو أن القادة الذين يعيدون صياغة العلاقات الدولية وفق أهوائهم الشخصية ودون اعتبار للمبادئ المؤسسية الراسخة يزرعون بذور الاضطراب التي قد تتحول إلى أعاصير تدمر النظام العالمي برمّته وإن قراءة متأنية لمقال وول ستريت جورنال بعنوان (( كيف يرى ترامب العالم ))بقلم ويليام أ. جالستون تكشف لنا بوضوح أن نهج دونالد ترامب في السياسة الدولية ليس سوى انعكاسٍ صارخٍ لما يعرف في علم النفس السياسي بمنحنى دونينج كروجر حيث يقبع الرجل عند ذروة الوهم بامتلاكه فهماً استثنائياً بينما هو في واقع الأمر يفتقر إلى الإدراك العميق لتعقيدات الجغرافيا السياسية وتشابكات الاقتصاد الدولي
**ترامب ورفضه للنظام الدولي القائم على القواعد
يرى ترامب في النظام الدولي القائم على القواعد لعنة على بلاده لا لأنه يعي حقيقته بل لأنه يرفض كل ما يقيّد حريته المطلقة في الحركة غير أن هذه الحرية المزعومة ليست إلا فوضى مقنّعة فعندما يقوّض رئيس الولايات المتحدة النظام الذي أسسته بلاده نفسها على مدى عقود فإنه في الحقيقة يوجه رصاصة إلى قدمه قبل أن يصيب غيره إنه ينظر إلى التحالفات كأعباء وينسى أن التاريخ لم يشهد قوة عظمى ازدهرت في عزلة كاملة فحتى الإمبراطوريات التي اعتقدت أنها قادرة على الاستغناء عن الشركاء انتهت إلى زوال سريع لأن العالم شبكة متداخلة لا يستطيع فيها أحد أن يفرض إرادته منفرداً دون عواقب
**مفهوم الاتفاقيات الدولية في عقلية ترامب: التفاوض كصفقة تجارية
إن الفكرة التي يؤمن بها ترامب بأن الاتفاقيات يجب أن تكون قابلة للمراجعة بمجرد أن يشعر بعدم ملاءمتها تعكس رؤية تجارية محضة لعالم السياسة الدولية وكأن العلاقات بين الدول ليست سوى صفقات بيع وشراء في سوق متقلب لكنه يجهل أو يتجاهل أن الشرعية الدولية لا تُبنى على عقود مؤقتة بل على التزام أخلاقي وسياسي طويل الأمد وهو ما يجعل حلفاء الولايات المتحدة يشعرون اليوم بعدم اليقين تجاه مصداقيتها ويحث خصومها على استغلال هذا التذبذب لصالحهم
**السياسة الخارجية القائمة على المصلحة الذاتية واللامبالاة بالأخلاق
أما النهج القائم على المصلحة الذاتية المطلقة واللامبالاة بالمبادئ الأخلاقية فإنه ليس جديداً في تاريخ السياسة لكنه كان دائماً محفوفاً بالمخاطر فالتخلي عن القيم المشتركة لا يعني فقط خسارة الدعم الدولي بل يؤدي أيضاً إلى تصاعد الاستياء الداخلي حيث تصبح الولايات المتحدة في نظر الكثيرين مجرد قوة أنانية لا تكترث إلا لمصالحها الضيقة ولعل هذا ما دفع قادة أوروبيين مثل أنجيلا ميركل وإيمانويل ماكرون إلى التصريح مراراً بأن على أوروبا أن تتعلم الاستقلال عن واشنطن لأن التزامها بالمبادئ لم يعد مضموناً في ظل قيادة ترامب
**الهوس بالعجز التجاري وسوء فهم الاقتصاد المعولم
أما فيما يتعلق بنظرته إلى الاقتصاد فإن هوسه بالعجز التجاري يكشف عن فهم سطحي للغاية لطبيعة الاقتصاد المعولم إذ يعتقد ترامب أن التجارة لعبة صفرية إما أن تفوز بها أو تخسرها متجاهلاً أن العجز التجاري ليس مؤشراً على الخداع بل هو نتيجة طبيعية لتوزيع الإنتاج والاستهلاك في اقتصاد عالمي معقد كما أن اعتقاده بأن حلفاء أمريكا يخدعونها بالدفاع عنهم دون فوائد مصاحبة يعكس فهماً بدائياً لمعنى النفوذ الاستراتيجي إذ إن القواعد العسكرية الأمريكية حول العالم ليست تبرعاً بل هي أداة قوة تمنح واشنطن سيطرة غير مباشرة على الأمن العالمي
**الإعجاب بالديكتاتوريين: نموذج بوتين وشي وكيم
والأخطر من ذلك هو انبهاره الصريح بالزعماء المستبدين الذين يحكمون دون معارضة أو إعلام حر فهو لا يخفي إعجابه بفلاديمير بوتين وشي جين بينج وكيم جونج أون بل يتحدث عنهم وكأنهم نموذج يُحتذى لا خطر يُخشى وهنا تكمن أكبر المفارقات فالرجل الذي وصل إلى السلطة من خلال نظام ديمقراطي يستغل هذا النظام نفسه ليقوض أسسه متناسياً أن الحرية التي جعلته رئيساً هي نفسها التي يسعى إلى طمسها ولو كان الأمر بيده لما تردد في إعادة تشكيل الحكم وفق تصوره السلطوي
**تقليص النظام الدولي إلى ثلاث قوى عظمى فقط
أما رؤيته للعالم كثلاث قوى عظمى فقط فتعكس عقيدة سياسية خطيرة تقوم على تجاهل الدول الأصغر وكأنها مجرد أضرار جانبية لا قيمة لها وهو تصور ينذر بإضعاف النظام الدولي حيث تصبح السيادة الوطنية للدول الصغيرة مجرد ورقة مساومة في لعبة القوى الكبرى وإذا كان ترامب يرى أن النفوذ هو كل شيء فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو ماذا سيحدث عندما يفقد هذا النفوذ أو عندما يُسيء استخدامه إلى حد يدفع الآخرين للبحث عن بدائل
**هل يمكن للعالم تحمّل أربع سنوات أخرى من التخبط؟
في النهاية إن نهج ترامب في السياسة الدولية ليس مجرد انحراف عابر بل هو انعكاس لفلسفة قائمة على العشوائية وعدم الالتزام وإذا كان العالم قد نجا في فترة رئاسته الأولى من كوارث كبرى فإن أي عودة له إلى البيت الأبيض قد تكون بمثابة مقامرة بمستقبل النظام الدولي كله فما بين إضعاف التحالفات وإفساد الاتفاقيات وتقويض المبادئ يبقى السؤال الأهم هو هل يمكن للولايات المتحدة أن تتحمل أربع سنوات أخرى من هذا التخبط أم أن العالم على وشك الدخول في مرحلة فوضى غير مسبوقة
وفي المقال القادم سوف نضع الأسس والمحدِدات السياسية للتعامل مع الشخصية الترامبية
مدحت سالم
كاتب وباحث