أراء وقراءات

رسالة إلى ابني.. بين وهم المجموع وحقيقة الحياة

بقلم / حسن السعدني

يا بني:


لقد أعطاك والداك كل ما يملكان،ليس مالًا فحسب ،بل أعمارًا تُنزف في صمت، وسندًا لم يلن يومًا ولم ينكسر. فهل كانت كل هذه التضحيات من أجل امتحان الثانوية العامة؟
كلا يا بني، بل من أجل حياةٍ تليق بك.

نعم، إن اجتزت هذا الامتحان، فاعلم أن القادم ليس بأسهل، بل أخطر وأصعب.
معركتك الحقيقية تبدأ بعد أن تهدأ ضوضاء اللجان، وتنزاح الغمامة عن لوحة النتيجة، وتُفتح أمامك أبواب القرار المصيري:

إلى أين تمضي يا بُنَي؟

إن اختيار الكلية لا يجب أن يكون بطولةً في نيل رضا الناس، ولا سباقًا محمومًا نحو ما يسمّى بـ”كليات القمة”. بل هو لحظة مواجهة مع الذات:
ماذا تحب؟
ما الذي يمكنك أن تُبدع فيه؟
وما المجال الذي تستطيع أن تتفوق فيه بحق؟

يا بني،
دعك من الألقاب البراقة، ومن تصفيق المجتمع الأجوف، فكم من خريجي الكليات المرموقة باتوا سجناء شهادات لا تُطعمهم ولا تُغنيهم، في سوقٍ لا يرحم، ولا يعترف إلا بالكفاءة، والإبداع، والحرفة.

واسأل نفسك بصدق:

هل تريد شهادة، أم تريد حياة؟
هل تسعى إلى مقعد في كلية يُصفق لها الناس، أم إلى موطئ قدم في واقع العمل والإنتاج والنجاح؟
هل يخجلك أن تبدأ من ورشةٍ صغيرة أو مشروعٍ بسيط، إذا كان ذلك يوفر لك دخلًا كريمًا واستقلالًا حقيقيًا، ونجاحًا يُثمر؟

يا بني،
التفاخر بأسماء الكليات دون نتيجة عملية، وهم كبير.
لقد تغيّر العالم، ولم يعد التعليم هو الطريق الوحيد للنجاح، بل أصبح واحدًا من بين طرق متعددة.

التجارب أثبتت أن النجاح لا يُولد في مدرج الكلية، بل يُصنع في عقل شابٍ يؤمن بقدراته، ويتقن ما يعمل، سواء كان نجارًا أو سائقًا أو مزارعًا.

فكر في هذه الصور:

– طبيب بلا عيادة ولا مرضى، أليس حُلمًا معلقًا؟
– شاب بدأ بمطعم صغير أو مشروع حر، فإذا به يُشار إليه بالبنان… ليس لأنه حصد أعلى الدرجات، بل لأنه قرأ الواقع، وتحدى الظروف، وصنع من عرقه مجدًا.

يا بني،
اجعل المجموع مجرد رقم في ورقة، لا سجنًا لك ولا هوية.
كن ابن الواقع، لا عبدًا للتقاليد.
ابنِ مجدك بيديك، ولا تستورد أحلامك من أفواه الآخرين.

واعلم:
– الرزق لا يُكتب على رأس الكلية
– الكرامة لا يمنحها “كارنيه النقابة”
– القيمة لا تصنعها لافتات التنسيق

بل تصنعها يدٌ تعمل، وعقلٌ يُفكر، وقلبٌ لا يخاف من البداية.

فلا تهتز إن لم تُدرك كلية بعينها، ولا تفرح كثيرًا إن نلتها بلا هدف.
اصنع طريقك بنفسك، فإن الحياة لا تُقاس بالمجموع، بل تُبنى بالإرادة، والبصيرة، والعمل المُثمر.

 حسن محمد السعدني

كبير معلمي اللغة العربية -مدرسة السعدية الثانوية 

إدارة شربين التعليمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى