رسالة خفية بين الأرواح

بقلم /حسن السعدني
في مساءٍ هادئ من ليالي الصيف الموشّاة بنسيمٍ عليل، تهادت خطواتي نحو بيت صديقي العزيز، الذي طال بيننا الغياب، وطال معه الشوق والحنين. كانت ابنتي الصغرى ترافقني، تمسك بيدي كما تمسك الطفولةُ بالقلب، تسألني عن صاحب الزيارة وتضحك بخفة كلما أجبتها مازحًا.
وصلنا إلى المنزل، فاستقبلنا صديقي بوجهٍ لا تزال فيه بشاشة الزمن الجميل ، وابتسامة دافئة لم تتغير منذ آخر لقاء. ضمّني بقلبه قبل ذراعيه، واحتضن ابنتي بحنان الأب الذي يعرف كيف يكون الصدق في اللمسة والكلمة.
جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، نحكي عن الأيام، ونستعرض خيوط الذكريات التي جمعتنا. كنا نتحدث عن الحياة وتقلباتها، عن الأبوة وهمومها، وعن الأحلام التي تنمو في صمت.
مرّ الوقت بنا كالماء بين الأصابع، لا نشعر به إلا حين يغيب، وكأن الساعات انكمشت لتصبح لحظات، لكنها لحظات خالدة.
وفجأة، دخلت ابنته الصغرى إلى الغرفة. كانت ملاكًا صغيرًا يتهادى بخطى واثقة وعينين تلمعان بالدهشة. وقفت أمامي لبرهة، تنظر إليّ نظرة طفلة ترى في الغريب شيئًا مألوفًا، نظرة لا تخلو من تساؤل ولا من حنينٍ مبهم. ثم انسحبت بهدوء دون كلمة.
مرت دقائق قليلة، ثم عادت تمشي نحوي بخطى مترددة ولكنها حاسمة، وكأن شيئًا في داخلها يدفعها إليّ. رفعتها بين ذراعي، وكانت خفيفة كنسمة، لكنها حملت في قلبها ما يفوق سنوات عمرها القليلة من المشاعر. وضعت رأسها على كتفي وبدأت تحرك يدها الصغيرة عليه برقةٍ متناهية، كما لو كانت تكتب عليه رسالة لا تُقرأ بالحروف، بل تُحسّ بالروح.
نظر إليّ والدها بدهشة، فقد لم يعتد منها مثل هذا التصرف. وبدا على وجه والدتها مزيج من المفاجأة والتأمل، بينما ابنتي جلست تضحك ضحكات صافية، وكأنها شعرت بسحر اللحظة. أما أنا، فقد كنت في صمتٍ تام، أحاول أن أستوعب تلك الإشارة القادمة من قلب صغير لم يتعلّم بعد كيف يخبئ مشاعره.
لم تكن الطفلة تتكلم، لكن عينيها كانتا تنطقان، ودموعها التي سالت على كتفي بهدوء لم تكن دموع حزن، بل كانت أقرب إلى دموع من وجد ضالته، أو ربما دموع قلب صغير شعر في لحظة خاطفة بدفء مألوف لا يعرف مصدره.
أعطيتها لأختها الكبرى آلاء وهي لا تزال تبكي، لكن تلك الدموع لم تكن عبئًا، بل كانت طيفًا من شعور عميق، طاف بين الأرواح، وترك خلفه أثرًا لا يُنسى.
سألت نفسي طويلاً: ما سر تلك الدموع؟
هل كانت فرحة بلقائي، أم حنينًا إلى وجه يشبه وجهًا غاب عنها؟ أم أنها شعرت في حضني بلحظة صدق خالصة، لا يشوبها شيء من التصنع؟
كل هذه الأسئلة لم تجد لها إجابة، لكن ما عرفته يقينًا هو أن بين الأرواح تواصلًا لا يحتاج إلى كلمات، ولا تفسيرًا منطقيًا. هناك رسائل خفية تمر من قلب إلى قلب، ومن نظرة إلى نظرة، ومن لمسة إلى لمسة.
كانت دموع تلك الصغيرة لغة لا تُكتب، ولا تُدرّس في كتب البلاغة، لكنها من أصدق ما يمكن أن يُقال. كانت لحظة إنسانية خالدة، تترجم الحب والصدق في أنقى صوره، وتُعلّمنا أن المشاعر أحيانًا لا تحتاج إلى منطق، بل تحتاج إلى قلب مفتوح، وروح حاضرة.
في تلك الليلة، خرجت من بيت صديقي الشريف وفي قلبي امتنان لتلك الطفلة السماوية، التي ذكّرتني أن الحب الحقيقي لا يُقاس بالزمن، ولا يُروى بالكلمات، بل يُعاش في صمت، ويُخلّد في لحظة صدق.
نعم، كانت تلك دموعها… رسالة خفية بين الأرواح، لا تُقرأ إلا بالقلب