أراء وقراءاتالاسرة والطفل

كيف نربّي أبناءنا في عصر يسيطر عليه الضوء الأزرق؟

مقعد بين الطفل والشاشة

 

بقلم: د. نجوان أبو اليزيد موسى – خبيرة تكنولوجيا تعليم الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي

في زمنٍ تحوّلت فيه الشاشات من أدوات مساعدة إلى محور يومي لحياة أبنائنا، أصبحت التربية الرقمية من أكبر تحديات العصر الحديث. اليوم، بات الطفل يلمس الجهاز الذكي قبل أن يتعلم ربط حذائه، ويشاهد الفيديوهات قبل أن يتقن نطق الكلمات. فكيف يمكننا كآباء ومربين أن نوجّه أبناءنا وسط هذا الطوفان الرقمي دون أن نحرمهم من مزاياه أو نتركهم فريسة لمخاطره؟

التكنولوجيا: فرصة عظيمة أم خطر خفي؟

ليست التكنولوجيا عدوًا كما يظن البعض، بل على العكس، يمكن أن تكون حليفًا رائعًا إذا تم استخدامها بوعي. فقد تمكن الطفل من تعلّم لغة جديدة، أو اكتساب مهارات برمجية، أو استكشاف العالم من حوله من خلال الشاشات. ولكن بالمقابل، هناك جانب مظلم لا يمكن تجاهله.

مثال واقعي:
مريم، طفلة تبلغ من العمر 10 سنوات، بدأت باستخدام “يوتيوب كيدز” لأغراض تعليمية. لكن دون رقابة، تطوّر استخدامها إلى 6 ساعات يوميًا، ما أثّر سلبًا على نومها، ومستواها الدراسي، ومزاجها العام.

أبرز التحديات الرقمية في حياة الطفل

1. الإدمان على الشاشات

الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية يمكن أن يتحول إلى إدمان حقيقي، ويؤثر على التركيز والقدرة على التفاعل الواقعي. الطفل الذي يتصفح “تيك توك” لساعات يفقد تدريجيًا رغبته في التفاعل الحقيقي.

2. العزلة الاجتماعية

كريم، طفل في التاسعة، يفضّل الجلوس وحيدًا مع جهازه في كل المناسبات العائلية. هذه السلوكيات قد تكون مؤشراً مبكراً على ضعف المهارات الاجتماعية وانطواء الطفل على ذاته.

3. الاضطرابات النفسية

المقارنة المستمرة التي يراها الطفل على السوشيال ميديا قد تؤدي إلى قلق أو اكتئاب. ليلى، 13 عامًا، بدأت تشعر بالنقص بعد متابعتها لمؤثرات جمال على “إنستغرام”، وأصبحت ترفض شكلها الطبيعي.

4. المخاطر الأمنية

يواجه الأطفال أخطاراً حقيقية على الإنترنت، مثل التنمّر الإلكتروني، أو الابتزاز، أو التواصل مع غرباء. أحد الأطفال تلقى رسائل غير لائقة من شخص مجهول أثناء لعبه على تطبيق شهير، وبقي خائفًا لعدة أيام دون أن يخبر أحدًا.

كيف نربّي أبناءنا رقميًا؟ خطوات عملية وواقعية

1. وضع حدود صحية

ينبغي تحديد أوقات لاستخدام الأجهزة، وربطها بالإنجازات اليومية. أسرة أحمد خصصت ساعة واحدة فقط بعد أداء الواجبات للمشاهدة أو اللعب الإلكتروني، ما أعاد التوازن إلى يوم الطفل.

2. التعليم لا المنع

بدلاً من منع التكنولوجيا، علّم طفلك كيفية استخدامها. والد سلمى جلس معها ليشرح كيف تفرّق بين المحتوى المفيد والمسيء، حتى أصبحت تنتقي بنفسها ما يناسبها من تطبيقات تعليمية.

3. تشجيع البدائل الواقعية

نظّم أنشطة منزلية وخارجية تحفّز الطفل على التفاعل مع العالم الحقيقي. أم أحمد أدرجت رياضة أسبوعية، ورش فنون وزيارات ترفيهية ضمن جدول الأسرة، فلاحظت انخفاض وقت الشاشة تلقائيًا.

4. الرقابة الذكية والواعية

استخدم أدوات المراقبة الرقمية الحديثة التي تمنحك تحكمًا دون التطفل. أحد الآباء كان يتلقى تقارير أسبوعية من تطبيق “فاميلي لينك” لمعرفة التطبيقات التي يستخدمها ابنه، ويتحدث معه عنها بهدوء.

5. التواصل اليومي الفعّال

الطفل بحاجة لمن يسمعه بصدق. حوار بسيط قبل النوم مثل “شو أكثر شيء شفته اليوم عجبك؟” قد يفتح بابًا للنقاش، ويكشف ما يخفيه.

أدوات تقنية تساعد الأهل في الرقابة والتوجيه

التكنولوجيا تقدم للأهل حلولاً فعالة لمتابعة استخدام الأطفال للأجهزة، دون الحاجة إلى منعهم تمامًا:

Google Family Link: يسمح بتحديد وقت استخدام التطبيقات، وتتبع المواقع الجغرافية، والموافقة على التنزيلات.

Qustodio: يقدّم تقارير مفصّلة عن أنشطة الطفل الرقمية، ويتيح حظر المحتوى غير المناسب.

Bark: يراقب المحادثات والمنشورات على تطبيقات التواصل الاجتماعي، ويُنبه في حال وجود محتوى غير لائق.

YouTube Kids: منصة آمنة ومخصّصة للأطفال، مع إمكانية تحديد الفئة العمرية والمحتوى المعروض.

Microsoft Family Safety: يوفّر أدوات تحكم ومتابعة لأجهزة ويندوز وإكس بوكس، مع إمكانية تحديد وقت الاستخدام والمحتوى.

الخلاصة: كن حاضرًا، لا مراقبًا فقط

التربية في العصر الرقمي تتطلب منا التوازن بين الرعاية والحرية، بين الرقابة والحوار. أطفالنا لا يحتاجون لمن يمنعهم من التكنولوجيا، بل لمن يرافقهم فيها، ويوجّههم بحب ووعي.

فلنكن الجسر الذي يعبر بهم نحو استخدام آمن، مسؤول، وهادف للتكنولوجيا.. لا الحاجز الذي يفصلهم عنها أو يدفعهم للغرق فيها سرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.