من صخب الترند إلى صمت الضمير :حين يرقص البلوجر وتبكي غزة

بقلم أيقونة الإتزان / السفير أحمد سمير
تتفاقم يوميًا أزمة “المحتوى الفاسد” الذي ينبعث من شاشاتنا، كرائحة القهوة الرخيصة في مقاهي المدينة: سريعة الذوبان، مؤقتة الأثر، ولا تمنحك سوى جرعة نشاطٍ مصطنعة لا تدوم.
بريق زائف ورائحة عفن
نعيش في عصرٍ أصبح الناس فيه أكثر استعدادًا لالتهام فيديو رقصٍ عابر لمدة ست ثوانٍ، من قراءة خبرٍ عن طفلٍ فقد عائلته وبيته تحت أنقاض غزة وفي هذا المشهد، برز “البلوجر” و”التيك توكر” كقطع ديكور رقمية تُزيّن الفضاء العام، مُخبئةً وراء بريقها الزائف ورائحة العفن الأخلاقي والآن، بعد موجة الاعتقالات الأخيرة، يطرح السؤال نفسه: هل سنشهد إعادة ترتيب حقيقي لمجتمعنا الذي تفوح منه هذه الروائح الكريهة، أم أن هذه الاعتقالات ستكون مجرد مسكّنٍ مؤقت، لتعود الأمور بعدها أسوأ مما كانت عليه؟
الظل القبيح
دعونا لا نتظاهر بالبراءة؛ فمنصات التواصل الاجتماعي فتحت أبوابًا لصوتٍ كان مغيبًا، وهو صوت العامة، وهذا بحد ذاته أمر إيجابي، خاصة مع بروز مبادرات متميزة لكن وكما علمتنا الحياة، “لكل بريق ظل” والمشكلة أننا تركنا البريق الحقيقي وتمسكنا بالظل القبيح فحين صار “عدد المتابعين” و”معدل الوصول” هما مقياس النجاح الوحيد، أُنتج المحتوى وفقًا لمعادلات الجذب السطحية: الإثارة، والصدمة، والتعري، والتبسيط المخل، والابتذال بلوجر يُضحك، وآخر يُبكي، وثالث يغني وهو يروّج لمنتجٍ يغني جيب صاحب الإعلان أكثر مما يفيد مستهلكه.
ولكن تكمُن المفارقة الأكثر سخرية في أننا بينما نرى عقوبة المنصات الصغيرة تتمثل في الاعتقالات، تظل هناك قنوات فضائية كاملة تقيس نجاحها برصيد الإعلانات لا برصيد الضمير، وهي أسوأ في تأثيرها من أي بلوجر، وكل ذلك يحدث تحت سقف القانون! هنا يكمن الفارق الجوهري بين “ضياع الوقت” و”ضياع الواقع”: الأول يزعجنا لأنه يسرق وقتًا كنا سنمضيه في شيء مفيد، أما الثاني فيسرق حياتنا وأملنا أمام أعيننا، دون أن يكلف نفسه عناء مراجعة ما يفعل.
السؤال الجوهري
السؤال الجوهري إذن: هل نحن ضد البلوجرز ككل؟ الإجابة قطعًا لا نحن ضدّ النسخة الفاسدة منهم، التي تحولت إلى أداة لصرف الانتباه في زمنٍ يُختزل فيه حزن فلسطين في “هاشتاغ”، ويُقاس فيه التضامن ب”الإيموجي” في هذا السياق، يصبح البلوجر – إن لم يكن واعيًا – شريكًا في طمس الحقيقة هو ذلك الذي يلتقط فيديو رقصٍ أمام شاشة تعلن خبرًا عن مذبحة في غزة، أو الذي يبيع “حلًا سحريًا” لمتابعيه بينما أطفال غزة يبحثون عن قطرة ماء المسألة هنا ليست مجرد أخلاق شخصية، بل هي أخلاق جماعية بامتياز: فنحن سنُحاسب على ما نغمض أبصارنا عنه سعيًا وراء بهجةٍ سريعة زائفة.
من زاوية أخرى، قد تكون الاعتقالات الأخيرة – إن كانت جادة ونابعة من تطبيق قانون نزيه – فرصةً ذهبية لتنظيف الفضاء الرقمي من هذا الغثاء، وتعزيز ثقافة المحتوى المسؤول لكن يبقى الهاجس: أهي بداية حقيقية أم مجرد مسكّن وقتي؟
اعتقال منظومة فساد
الحقيقة التي يجب أن ندركها هي أننا إذا أردنا حقًا تطهير مجتمعنا من “البلوجرز المفسدين”، فلا بد أن نبدأ أولاً بتطهير العالم من “صانعي الفساد الحقيقيين”، أولئك الذين لا يحتاجون إلى فلتر لأقوالهم؛ لأنهم يضعون العالم كله على فلتر الخراب! وحينها فقط، سننتقل من مرحلة “اعتقال مؤثر” إلى مرحلة “اعتقال منظومة فساد”
أما الآن، فدعوني أقولها بصراحة: إن أردتم إيجاد المجرم الحقيقي، فابحثوا عن المشاهد الذي ترك الفائدة وذهب إلى حيث الصخب نعم، المشاهد هو الذي شارك وعلّق وأعجب، مرفعًا من شأن أصحاب الحسابات الفاسدة فقوة هؤلاء لا تكمن في عدد المشاهدات فقط، بل تتحول إلى أرصدة بنكية ومكانة اجتماعية لم يكونوا ليحلموا بها لولا ذلك التفاعل العشوائي.
وفي الختام، للسخرية وجوه متعددة، لكن للضمير وجه واحد فقط فمن يسرق وقت الناس وأذهانهم بلا سببٍ لا يختلف في الجوهر عمن يسرق أرواحهم بلا محاسبة. إذا كنا سنقف مع القانون، فليكن ذلك في كل شيء، وليعد المجتمع إلى دوره الأساسي في التربية والتصحيح، وأن يقف دائمًا إلى جانب المظلوم والحق، لا إلى جانب أصحاب “الترند”.
غزة: الأمل قائم وقادم
وإلى ذلك الحين، أقول لأهلنا في غزة: الأمل قائم وقادم، طالما أن من خلقنا هو الرب والإله فكل شيء في هذه الدنيا زائل، إما إلى جنةٍ أو إلى نار أما أنتم، فقد كانت نار الدنيا قاسية عليكم، ولكن جنة الآخرة هي جزاؤكم الأكيد، بإذن الله.
السفير د. أحمد سمير
عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة
السفير الأممي للشراكة المجتمعية
رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية