أراء وقراءات

سرقة القلوب

بقلم د. محمد توفيق ممدوح الرفاعي*

الحب هو أسمى المشاعر الإنسانية مهما كان نوع هذا الحب شريطة أن لا يكون حبا شهوانيا متمثلا بالجسد والمادة. ومن أجمله وأسماه الحب الأسري الذي يقوي الروابط الأسرية والعائلية ويمتن أواصر القربى وصلة الرحم .

في الغالب الكثير منا لا يعلم ما معنى صلة الرحم وأواصر القربى. فالأواصر هي العهد والميثاق الذي أخذه الله على الإنسان في الأرحام و يعتبر ميثاقا غليظا يقتضى على الإنسان البر والوفاء به بالرحمة والمودة. وقد تعهد الله بأن يصل واصلها أي من حافظ على العهد ويقطع قاطعها .

أي الذي نكس بالعهد وعهود الله لا جدال فيها ولذلك هو لم يربطها بعبادة تبرر قطع صلة الرحم. فأواصر القربى هي كل ما يمت للإنسان بصلة رحم من ذكر وأنثى مهما علوا ومهما دنوا وتباعدت القرابات. كالميراث تماما، كما الإنفاق على المعدم يقع على عاتق كل وارث يرث ذلك المعدم لو كان منعما ،كذلك الرحم لا تنقطع أواصرها وعهودها ومواثيقها وربطها بجبر الخواطر رباطا وثيقا، مما يوجب على كل رب أسرة تنميته في قلوب وعقول أفراد أسرته منذ نعومة أظفارهم وهو المسؤول الوحيد بذلك أمام الله .

فإذا ما أراد الأب أن يجعل من أولاده على خلق حسن وسمعة طيبة بارين به صالحون متحابون ضمن الأسرة ومع أفراد العائلة، عليه أن يكون متجملا بالأخلاق الحميدة وأن يجعل من نفسه قدوة لهم في صلة الرحم والمحافظة على أواصر القربى والعمل الصالح ومشاعر المحبة والعطف، فمن المؤكد حينذاك أنهم سيصبح مثلهم الأعلى ويقتدون به ويشبون على ما ورثوه منه من المحبة وكرم الأخلاق وصلة الرحم.

ولكن وللأسف أننا نجد الكثير من الآباء في أيامنا الحالية وهذا ما ظهر جليا أبأن النكسات التي مررنا ونمر بها أنهم جعلوا من أولادهم أعداء لهم وأعداء فيما بينهم، والسبب في ذلك التمييز بين الأبناء والأخوة وتفضيل البعض منهم على الآخر، فيمنحون الحب والرعاية لأحدهم دون الآخر، مما يدفعهم إلى التنمر وخلق روح العداوة والبغضاء فيما بينهم، مما يؤدي إلى تفكك الروابط الأسرية وقطع أواصر الأخوة وانعدام صلة الرحم بينهم .

أما عندما يتعامل الإباء مع أولادهم بالحسنى وبالعدل فيما بينهم ويقسمون حبهم بينهم بالتساوي ويزرع فيهم روح المحبة والترابط الأسري والتأكيد على أهمية الحفاظ على صلة الرحم فيما بينهم، فإنهم يجعلون من أسرهم أسرا قوية متماسكة صالحة، فرب الأسرة هو أول من يضع اللبنة الأولى في قلوب أبنائه في المحبة والكراهية.

وعلينا أن نعلم أن الحب ليس مجرد تصرفات تتبع حالات آنية حسب ما تقتضيه مصلحتنا فنوحي للأخريين بالمحبة ونضمر غير ذلك أو يساورنا الشك من جهتهم ، فنعمد على وضع هذا الحب تحت المجهر والاختبار عندها سيصبح هذا الحب مجرد صفقة تجارية لخلوه من المشاعر والعواطف والأحاسيس الفطرية، فالمشاعر والأحاسيس التي تعبر عن العواطف الداخلية للإنسان والتي يعبر فيها عما يشعر به تجاه أفراد أسرته الصغيرة أو عائلته الكبيرة الحقيقية لا تحتاج إلى وضعها تحت الاختبار، لانها ستصبح مجرد تجارة تخضع لقانون العرض والطلب تتأرجح في الميزان يتأذى منه الجميع و يعتبر نقطة انطلاق للقضاء على كل كافة القيم الأخلاقية الأسرية وأواصر القرابة والمحبة وصلة الرحم.

ولذلك يجب أن ينبع من مشاعر صادقة بعيدا عن المصالح الشخصية، وأن يكون الحب نابعا من الذات كحب الأخ أو الابن أو ذوي القربى، يحبون لبعضهم ما يحبون لأنفسهم ويفرحون لفرحهم متمنين الخير للجميع متغاضين عن الهفوات والزلات الصغيرة، وتمتين ذلك بالتواصل الاجتماعي المتمثل بالزيارات المتبادلة والتعاطف الدائم فيما بينهم، كل ذلك يمتن العلاقات الودية والألفة بين الأخوة والأهل والأقارب.

ولكن وللأسف باتت ظاهرة قطع التواصل والتزاور والتراحم صفة مميزة بين الأهل والأصدقاء في هذه الأيام بحجج واهية ارتبطت بالتطور الحضاري والتقني المتمثل بعولمة جديدة قضت على كل القيم والعادات الاجتماعية هي عولمة الأنترنت التي ساعدت على التباعد وانقطاع حبل المودة التي كانت موجودة متمثلة بالتزاور وتفقد أحوال الآخرين والسؤال عن احوالهم واستعيض عنها بالتراسل عبر وسائل التواصل الاجتماعي برسائل مختصرة لا حياة فيها ولا عاطفة، فعبارة بسيطة نابعة من إحساس مليء بمشاعر المحبة الصادقة ترسلها أو تقولها لأخيك تشعره فيها بأنك قريب منه وتزرع في قلبه الحب والحنان فقد يكون ها الأخ أو القريب في حالة هو بأمس الحاجة إلى المواساة لظروف صعبة أو حالة مرضية يمر بها ولو بكلمة ود تعيد له عافيته.

فكما قطرة الماء تعيد الحياة لإنسان شارف على الموت في صحراء لا ماء فيها ولا نبات أو كنبتة ذابلة شارفت على الهلاك بسبب الجفاف كذلك الكلمة الطيبة قد تعيد الأمل لإنسان يائس فقد كل أمل له بالحياة ، ففر إلى الأحلام هروبا من واقعه المؤلم التي وجد فيها المتنفس الوحيد له ولكن سرعان ما يتحول هذا الحلم إلى كابوس يقلق عليه حياته و قد فقد كل أمل له في الحياة، فبصلة الرحم والسؤال والمواساة فإننا نزرع الأمل في قلب إنسان أتعبته الهموم وفقد كل معاني الأمل بالحياة ، فبالكلمة الطيبة النابعة من مشاعر الود والمحبة نستطيع إعادة رونق الحياة له .

فالحب الأسري والعائلي  بشكل عام كشجرة الورد لا يفوح عطرها إلا إذا رعتها أياد حانية وروتها قلوب دافئة ونفوس نشأت وتربت على المحبة الصادقة والمشاعر النبيلة وبهذا تستطيع سرقة قلوب الآخرين بشد أواصر القربى وصلة الرحم ، فأجمل السرقات هي سرقة القلوب بالكلمة الطيبة الرقيقة هي أفضل من عشرات الصور المزخرفة والمزينة بعبارات طنانة جوفاء لا حياة فيها تعج بها صفحات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت تقصها وتلصقها ثم ترسلها عبر الهاتف وكأنها مهمة يجب عليك إنجازها كل صباح وأنت تحتسي فنجان قهوتك ، ليست كل سرقة حرام فأجمل السرقات هي سرقة القلوب بالكلمة الطيبة، فبما أن الحب حالة إنسانية راقية تنم عن مشاعر عاطفية ستجد أن البعض له منطق سليم يحبك كما أنت فيعيش معك حياتك ويشعر بما تشعر به ، وستجد البعض يمتلك مفهوما مختلفا فهم يريدك كما يريد هو لك أن تكون ولذلك تشعر أنه لا يعيش معك حياتك ولا معاناتك ولكنك بسرقة القلوب تجعله يحبك كما أنت ويشعر بما تشعر به أنت .

*كاتب وشاعر سوري 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.