أراء وقراءات

لا إيمان لمن لا أمانة له… بقلم : الدكتورة وفاء الشيخي

كنت أقف في طابور الدفع  في إحدى الأسواق التجارية  الأوربية، وعندما وصل دوري ومرَّرت المُحاسبة الأشياء البسيطة التي اشتريتها على الحاسب، قالت :حسابك 7 يورو سيدتي، ناولتها 10 يورو ، فأعطتني الباقي 93 يورو!!!.

قلت لها مازحةً: أريد معرفة جدول ورديتك في العمل .. فردت بإستغراب : لماذا ؟؟

قلت لها: أين لي  بكاشيرة كريمة مثلك أُعطيها عشرة يورو فتعطيني 93 يورو ..

صرخت وقد جحظت عيناها: يا إلهي .. يا إلهي !!

مالذي فعلته ؟؟ّ انتبهت المسكينة للخطأ الفادح الذي ارتكبَتْه لتوها !!

ابتسمت ورددت إليها المال، سمعت إطراءً وعبارات المديح والإعجاب ممن كانوا خلفي في الطابور، والمسكينة من فرط فرحتها عانقتني وبكت !!

قلت مازحة : إن كنتي ستبكي رُدِّيه إلي من جديد، قالت ضاحكة: كنت سأدفع هذه المبلغ من مالي الخاص لو لم تكوني أمينةً وترجعيه .

أشبعتني هي ومن كانوا خلفي في الطابور عبارات الشكر والمديح كأنني حررت عكة !! .

قلت لها قبل أن أودعها : هوني عليك، أنا لم أفعل إلا الواجب الطبيعي، أنا مسلمة وديني يأمرني ويحثني على تأدية الأمانة إلى أهلها، وأي إنسان آخر مكاني كان سيفعل ما فعلت ..

قالت مقاطعة : قليليون جدًّا .. صدقيني !!

صافحتُها وتمنّيت لها يوماً طيّباً،  وحييّت الآخرين وشكرتهم على لطفهم وغادرت ..

منذ صغرنا تعلمنا أن الأمانة قيمة عليا من القيم الإنسانية، وخلق رفيع من الأخلاق الكريمة، الأمانة كلمة خفيفة في اللسان  ثقيلة في الميزان، متصلة بالإيمان، أعظم ثمارها الأمان، والأمانة هي من أعظم القيم والمبادئ التي يلتزمها الإنسان، وفي مقدمتها أمانة الدين، فقد عجزت السماوات والأرض عن حملها ، قال تعالى : ۞ {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا 27} الأحزاب.

الأمانة من صفات سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي التزم بها قولاً وعملاُ من قبل بعثته، فكان الناس يؤمّنونه على أموالهم وأنفسهم،وأسرارهم ،ولنا فيه القدوة والاسوة الحسنة.

والأمانة أنواع :

أولها: أمانة العبد مع ربه في العبادة ،والتوحيد والتسليم الكامل بالروح والجسد لله، والامتثال لأمره  والالتزام بالتكاليف الشرعية وأدائها على الوجه الصحيح، وصيانة العهد بينه وبين ربه، فقد أخذ الله عهدهم بعد ان أخرجهم من صلب أبيهم أدم الى عالم الذر، وأشهدهم على أنفسهم ،( ألست بربكم ؟! قالوا بلىّ ) ميثاق وأمانة وعهد، يجب أن يكونوا أوفياء له حتى يلْقَوه وهو راضٍ عنهم.

ثانيها: أمانة العبد مع نفسه وتكون بحفظ جوارحه من الحرام، واختيار الخير والأصلح في جميع مجالات الحياة، بما يُرضي الله سبحانه وتعالى، وبين الزوجين بالعشرة الطيبة وحفظ الأسرار الزوجية، والقيام بالواجبات والحقوق بينهما، وتربية الأبناء التربية الصالحة وتقديم القدوة الحسنة .

وثالثهما : أمانة العبد مع الناس..

أمانة الحقوق ، قال تعالى ۞: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّه 283ُ} سورة البقرة

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ  – أَنَّ رَسُولَ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ” ،فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيراً يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: “وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ”. رواه مسلم

 

و الحقوق هي حفظ ممتلكات النّاس إلى حين استردادها، فالمسلم الحق يؤدي الأمانة كما استلمها من أصحابها سواء كانت مالاً، أو أشياء عينية أو عقاراً …إلخ ، وكذلك حفظ العهود معهم، وتسديد الديون وإتيانهم حقوقَهم، وعدم التحدث عنهم في غيابهم.

رسالة التعليم أمانة، بل من أعظم الأمانات، تنشىء أجيالاً محافظة على تلك القيم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام منظومة القيم والأخلاق الرفيعة، والتزام صدق الحديث أمانة، وحفظ السر أمانة، فالعلم يجب تبليغه وأداؤه على وجهه الصحيح ، وقد أخذ الله ميثاق أهل العلم أن يبينوه ولا يكتمونه.. ۞

{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} آل عمران 187

ومن الأمانة أن يضع صاحب القرار صاحب العقل المناسب في المكان المناسب، وفق معايير حقيقية وأسس صحيحة،بعيدا عن الوساطة والهوى، والاجحاف في حقوق العاملين،  ومن هذه المعايير  إتقان العمل، والقوّة فيه، إلى جانب التّقوى والصّلاح،

{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26].

وهناك أمانة الحكم والعدل، فالظلم ظلمات يوم القيامة .. القاضي والحاكم عليهما أمانة العدل والقسط بين الناس .

كذلك أمانة الكلمة المكتوبه والمرئية والمسموعة،۞ {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون1َ} القلم

.. فكم من كلمة خرّبت بيوتًا كانت عامرة، وكم من كلمةٍ قتلت إنساناً مظلوماً ، وهدمت بنياناً، ودمرت كذلك أوطاناً !

لذلك وجب تحري الصدق واليقين، والأمانة في السرد و النقل { ۞ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ 22} النمل.

الأمانة هي من صفات وخلق المُؤمنين ،فلا يُمكن أن نجد مُؤمناً خائناً، فإيمانه يُحتّم عليه بالفطرة أن يكون أميناً على كُل ما يمتلك، وفي كُل ما يقوم به، وعلى كل ما يستأمن عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ” لا إيمان لمن لا أمانة له”.

د. وفاء الشيخي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.