البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير (52) الأعراف وما بين الجنة والنار

 

بقلم: د.سعد كامل 

تناولت المقالات الثلاث السابقة -من سلسلة مفهوم الكون الكبير- بعض جوانب التفكر حول الجنة والنار وفق ما ورد من نصوص شرعية تسمح لنا بالتفكر في ذلك، وقد كان المقال رقم 49 بعنوان التفكر حول الجنة والنار، ثم تلى ذلك المقال رقم 50 بعنوان مكان الجنة والنار، أما المقال السابق رقم 51 فقد كان بعنوان خلود الجنة والنار… وفي المقال الحالي نستعرض ما ورد عن أصحاب الأعراف مع وقفة كونية حول أبرز ما وردت به النصوص الشرعية من خلق الله تبارك وتعالى في السماوات العلى (أو الجنة) وأبرز ما في السماوات السفلى أو الأرضين (النار أعاذنا الله منها):

أصحاب الأعراف:

-قال تعالى في سورة الأعراف: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)).

-وقال تعالى في سورة الحديد: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)).

تعددت أقوال المفسرين حول من هم أصحاب الأعراف؟ فيقول مختصر تفسير ابن كثير أنهم مجموعة من المؤمنين استوت حسناتهم مع سيئاتهم، فلا هي تنجيهم من النار ولا هي تجعلهم يدخلون الجنة، فهم يقفون على سور بين الجنة والنار، وعن قوله تعالى (وبينهما حجاب) قال ابن كثير هو السور وهو الأعراف، قال مجاهد: “الأعراف حجاب بين الجنة والنار سور له باب”، وقال السدي: “إنما سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس”، وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته، فقال: ((أولائك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون)).

وقد روى ابن جرير عن ابن مسعود مرفوعا قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ قال: ((هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد، قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم)).  وروي عن الحسن حول قوله تعالى (لم يدخلوها وهم يطمعون) إن الطمع لكرامة يريدها بهم، كما جاء في مختصر ابن كثير أيضا حول قوله تعالى (فضرب بينهم بسور له باب) روي عن الحسن وقتادة أنه حائط بين الجنة والنار.

وربما يكون هذا السور أو الحائط الذي يقف عليه أصحاب الأعراف، ويفصل بين الجنة والنار، ربما يكون بناءا عظيما فوق كل أرض من الأرضين في السماوات، وبذلك يفصل بين الجنة والنار في كل سماء، ويكون له باب كما جاء في آية سورة الحديد، وبذلك يحتمل والله أعلم أن يكون محيطا حول كل سماء عند المستوى الاستوائي منها الذي يفصل بين الجنة والنار فيها، كما يوضح ذلك مخطط الكون (شكل 1)، والله تعالى أعلى وأعلم.

شكل رقم (1): مخطط مقترح للكون، مع وصف موجز لمكونات الكون.

((لو الشكل لا يظهر: فضلا اضغط على الفراغ أعلاه))

ويتقدم الباحث بهذا التخيل حول بناء الكون العظيم، وعن توزيع مكونات الكون في هذه الدنيا وفي الآخرة للسادة علماء  الشريعة للتحقيق والبحث حول ما يؤكد هذا التخيل، أو يرفضه بناء على الأدلة التي تفيد ذلك، وذلك يوضح لنا أن الله تبارك وتعالى قد أعد كل جزء من الكون الكبير ليكون له دور في استيعاب أو تلبية احتياجات الخلق أثناء حياتهم في هذه الدنيا، وبعد مماتهم في حياة البرزخ، ثم مأواهم في الحياة الآخرة سواءا في النعيم للصالحين، أو في الجحيم للظالمين.

وقفة كونية:

يرى الباحث أن تناول كل التفاصيل المعروضة بين سطور هذا البحث (ابتداءا من مناقشة أبعاد الكون، ثم العرش والملكوت، ثم السماوات والأرضين، ثم مفهوم الزمن وخلق الكون، ثم مقالات السماء والكرة الأرضية والملائكة ثم مقالات الكون في يوم القيامة؛ (كامل، تحت الإعداد)) فإن تناول تلك الأفكار بالنقد والمراجعة يمكن أن يؤدي إلى الفوائد التالية:

-استكشاف كيف أن الاتساع الكبير لمكونات وأجزاء الكون المدرك عن بعضها البعض، والتأكيد على الدقة الفائقة في ضبط علاقات تلك المكونات بعضها ببعض، كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالا للشك على ضخامة هذا الكون المدرك، وفوق ذلك نلمس في جنبات ذلك الكون المدرك الدقة والإحكام في الخلق والتكوين والحفاظ على مكوناته من أن تصطدم ببعضها البعض فتتناثر.

-ومن ثم نستنتج من ذلك الاستكشاف مدى طلاقة القدرة الإلهية العظيمة في صنع ذلك الكون المدرك بتلك الدقة الفائقة، ونرى بما لا يدع مجالا للشك عظمة الخالق الكبير الواسع العليم القدير.

-وبالنظر إلى اعتبار الكون المدرك يمثل النصف السفلي للسماء الأولى، وأن السماوات تتوالى فوقه طباقا، وأن سمك كل سماء يصل إلى نصف قطر الكون المدرك (أو وحدة واحدة من وحدات المسافات الكونية، المستنتجة من الحديث الشريف أنها تمثل مسيرة خمسمائة سنة)، وأن بين كل سمائين مسافة تناظر وحدة مسافات كونية واحدة أيضا، فإذا كان نصف قطر الكون المدرك يصل إلى 13.7 مليار سنة ضوئية، فقد يصل مجموع أنصاف أقطارالسماوات السبع وما بينها من مسافات إلى 192 مليار سنة ضوئية… فهل نملك أمام هذا الاتساع الذي يفوق كل خيال إلا أن نشهد حقا ويقينا بعظمة ذلك الخلق الكبير، وأنه يؤكد على عظمة الخالق العظيم سبحانه وتعالى.

-كما يمكن أن نستنتج مدى الاتساع الهائل للسماوات العلى، حيث تقع الجنان فوق تلك السماوات، وكذلك مدى اتساع السماوات السفلى التي تقع دركات الجحيم فوقها حسب وضعها الفلكي كما أوضحنا سابقا، وهذا يقودنا إلى استنتاج عظمة الخلق والتكوين لمكونات تلك السماوات، ويجعلنا نتيقن كيف أن تجهيز عرصات القيامة سيتم بدقة بالغة، وذلك بتوظيف مكونات الكون الكبير لاستيعاب تجمع جميع الخلق يوم الحشر الأكبر، ونرى رأي العين كيف يكون الصراط تحقيقا فعليا لوسيلة الانتقال بين السماوات في يوم الحساب لوصول العباد كل إلى درجته في النعيم، أو إلى دركته في الجحيم، ونرى أيضا رأي العين كيف سيقوم الملائكة بترتيب أحداث ذلك اليوم العظيم بأمره تعالى.

-أما من حيث وجود سور الأعراف الذي هو حائط بين الجنة والنار، فيمكننا أن نرى رأي العين أيضا كيف أنه سيكون بناءا عظيما يفوق في ضخامته كل الأسوار والحوائط التي يمكن للبشر أن يقوموا ببنائها، فما أبدع هذا الإله القادر صاحب القدرة الخلاقة التي تتمثل في عظمة الإعداد لمواقف الحساب العظيم، وفي دقة تجهيز ساحات ذلك اليوم الكبير… سبحانك ربنا ما أعظمك!!

-أما من حيث أعظم المخلوقات في الكون الكبير -العرش المجيد-، فقد رأينا أنه يمثل بالحساب البسيط في ضوء الروايات التي تصف الأبعاد الهائلة لأكبر مكونات الملك والملكوت، رأينا أن العرش المجيد يمثل 98.85% حجما من مجموع حجوم مكونات الكون الكبير، فهذا المخلوق العظيم يمكن أن نتخيله يشبه الكعبة المشرفة، وان الملائكة المقربون يطوفون حوله تعظيما لربهم سبحانه وتعالى، في حين أن السماوات السبع والأرضين السبع والكرسي تقبع في جوفه ويتعلق الكل بأسفل أمام العرش العظيم، فلا يزيد حجمهم جميعا عن 1.15% من حجم الكون الكبير… فلا نملك إلا أن نسجد للخالق عز وجل ونحن ندعوه سبحانه وتعالى أن يتوب علينا مما نحن فيه من الذنوب، وأن يأخذ بأيدينا إليه سبحانه، وأن يدخلنا جنة النعيم، اللهم آمين.

الخلاصة:

يعتبر الباحث أن مخطط بنية الكون المقترح يمكن أن يكون نوعا من استكشاف الدرر الكامنة في تراثنا الزاهر، وهذا يدل على أننا نحتاج لذلك الاستكشاف بشدة للعثور على المزيد من الحلقات المفقودة من مفهوم الكون وغيره من المفاهيم الكامنة في ذلك التراث الشريف، ومن ذلك حائط الأعراف أو السور بين الجنة والنار، الذي يشير إلى رحمة الله عز وجل بعباده الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، ثم يعفو الله عز وجل عنهم ويأذن لهم بدخول الجنة.

كما يؤكد الباحث أن التفكر في مفهوم الكون يجعلنا نستشعر الدقة والإحكام في ضبط مكونات الكون المدرك وما بينها من مسافات، ومن ثم نتيقن من عظمة الخالق سبحانه وتعالى عندما نستشعر ضخامة الكون الكبير ومكوناته في السماوات والأرضين والعرش المجيد، كل ذلك إضافة إلى توظيف مكونات الكون في تجهيز ساحات الحشر والحساب والصراط والأعراف، ومن ثم مأوى الصالحين في الجنة ومآل الطالحين في الجحيم… فسبحان الخلاق العظيم العليم.

المراجع:

-مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في المقال.

-كامل، س. (2023): سلسلة مقالات حول مفهوم الكون الكبير، موقع وضوح الإخباري:

(49)       التفكر حول الجنة والنار.

(50)       مكان الجنة والنار.

(51)       خلود الجنة والنار.

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.