البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير .. (14) التفكر في الكون وفي أنفسنا

بقلم: د.سعد كامل 

ما زالت هذه المقالات تتوالى ضمن المجموعة الثانية من المقالات التي تهدف إلى تقديم حوارا موجزا حول ما ورد في النصوص الشرعية عن مكونات الكون الكبير (وقد ناقشت المقالات السابقة بعض أمور العرش والكرسي واللوح المحفوظ)، وننتقل في هذا المقال – وبعض المقالات التالية بإذن الله – إلى مناقشة نصوصا شرعية حول ما يخصنا نحن البشر من الكون الكبير، ننتقل إلى مناقشة أمور السماوات السبع والأرضين السبع، وذلك توطئة للانتقال إلى المجموعة الثالثة من المقالات حول خلق الكون.

الآية 8 من سورة الروم

وقد وقف كاتبنا كثيرا أمام قوله تعالى في سورة الروم ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8))، حيث نرى مقابلة قوية بين اثنين من أكبر مجالات العلم البشري: النفس البشرية والكون، فهذا التفكر في ذواتنا وما فيها من أجهزة معقدة، وخلايا فائقة الدقة والتعقيد، وحوامل وراثية تحمل مليارات المعلومات في حيز متناهي في الصغر(صورة 1: دعوة للتفكر)… وغير ذلك الكثير من ملامح الدقة والإحكام والإبداع الرباني الذي تُجْمِلَهُ كلمة “بالحق” بإيجاز بالغ الدقة.

صورة (1): دعوة للتفكر. ((لو كانت الصورة غير ظاهرة، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

إن هذا التفكر في النفس البشرية التي نعلمها جميعا -سواء كنا من العوام أو من العلماء- لا بد أن يدفعنا إلى اليقين بأن المثال المقابل في الآية وهو الكون (السماوات والأرض وما بينهما) سيكون مخلوقا بنفس الإحكام والإبداع والتكامل والترابط الذي تحمله وتجمله كلمة “بالحق”، بل ويمكن القول أنه لا بد أن يكون هناك تشابها كبيرا بين هذين المجالين من مجالات الحقيقة الكونية (الإنسان والكون)، فالآية بداية تحثنا على التفكر في أنفسنا التي نعلم حقا وصدقا أنها تدل على عظمة وحكمة خالقها سبحانه وتعالى بالحق، ولا شك أن ذلك يجعلنا نصل إلى الاستنتاج بأن خلق السماوات والأرض وما بينهما تنطبق عليه أيضا نفس قاعدة التكامل النابع من الحق، ويتضح ذلك الإحكام والدقة في خلق ذلك الكون الواسع في العديد من آيات القرآن الكريم، والجدول (1) يذكر بعض هذه الآيات مع إشارات من كتب التفسير:

جدول (1): ((لو كان الجدول غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

التشابه في إحكام الخلق وفي مراحل الخلق

إن الذي يتفكر في خلق أبو البشر آدم عليه السلام من طين الأرض يجب أن يتوقف كثيرا عند الإبداع الإلهي في ذلك الخلق، فالانتقال من حالة الطين -تلك المادة الجامدة الصماء- إلى حالة الكائن البشري ذو الأجهزة المعقدة بملايين الخلايا، فالجهاز العصبي فيه من الإعجاز الكثير، وكذلك الجهاز العظمي والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي وأجهزة الإخراج والإبصار والتذوق…. وغير ذلك الكثير…. فلنتفكر في ذلك الانتقال العظيم من الطين الجامد إلى الكائن البشري المتحرك، ثم لننظر إلى الكون العظيم وما فيه من مجرات هائلة مرفوعة في السماء بغير عمد في عملية تشبه تشارك الجهاز العضلي والعصبي والعظمي في رفع الكائن البشري قائما دون سقوط.

إن التفكر الذي تأمر به الآية ( 8 ) من سورة الروم يجعلنا ننتقل من التفكر في الأنفس (أو لم يتفكروا في أنفسهم) إلى التفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما، فالتفكر الأول (في أنفسهم) يؤدي حسب الآية للتفكر الثاني (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)، وعليه يمكن أن نستنتج من ذلك أن هناك تشابها بين هذين المجالين من مجالات التفكر لأن النتيجة واحدة: أن ذلك الخلق تم بالحق والإحكام والدقة، ولم يتم عبثا ولا باطلا، وأن السماوات ليس فيها عيب ولا خلل كما أن خلق الكائن البشري –وجميع المخلوقات- ليس فيه عيب ولا خلل.

وذلك التشابه في التفكر والنتيجة يجعلنا نستنتج تشابها في مراحل الخلق وفي طريقة الخلق، لذلك ينادي الباحث الحالي باعتبار عملية خلق أبو البشر آدم عليه السلام التي تبدأ بخلق الجسم البشري من الطين، ثم تأتي مرحلة النفخ فيه من روح الله ليكون كائنا بشريا كاملا، ينادي كاتبنا باعتبار ذلك نموذجا للخلق العظيم…. وعليه يظن الباحث أن الله تبارك وتعالى قد خلق السماوات والأرضين أولا هيكلا كاملا، ثم قال سبحانه وتعالى لذلك الهيكل كن خلقا كاملا بالسماوات والأرضين وما بينهما من مجرات وأجرام وخلاء ومخلوقات لا يعلمها إلا الله… فكانت السماوات والأرضين دون خلل أو عيب –كما سيأتي لاحقا في مجموعة المقالات التالي ستتناول خلق السماوات والأرضين-.

هل الكون كائن حي؟

ويذهب الباحث إلى أبعد ما يمكن بناء على التفكر في تلك الآية (8 ) من سورة الروم:  وفي غيرها من الآيات مثل قوله تعالى في سورة الأنبياء: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30))، يقول مختصر تفسير ابن كثير حول قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي): “أي أصل كل الأحياء، وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إنني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: ((كل شيء خُلِق من ماء)) قال قلت: أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة؟ قال: ((أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام)) أخرجه الإمام أحمد وإسناده على شرط الصحيحين، وأخرج ابن أبي حاتم بعضه”. من هنا يذهب الباحث إلى القول بأن السماوات والأرضين، بل الكون كله يمكن اعتباره كائنا حيا مثله مثل الكائن البشري الذي تتجلى فيه إبداعات القدرة الإلهية، فكذلك الكون بكل ما فيه يوحي لنا أنه كائنا حيا يسمع ويطيع وينمو ويخضع لله عز وجل…. ولننظر إلى الآية التالية وما جاء عنها في التفسير:

يقول تعالى في سورة الأحزاب: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72))، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير ما يلي: “عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال):

-قال: عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم، وحملة العرش العظيم فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: فقيل لها إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا.

-ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شدت بالأوتاد وذللت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: فقيل لها إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا.

-ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: فقيل لها إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا”.

فهذا الحوار مع تلك المخلوقات يمكن أن يعطيها صفة أنها كائنات حية فهي لم تقبل الأمانة، أمانة تأدية الفرائض، صحيح أنه نتج عن ذلك أنها أصبحت كائنات مسيرة وفقدت الاختيار، إلا أن صفة الحياة التي وردت في آية الأنبياء (وجعلنا من الماء كل شيء حي) إن صفة الحياة تلك يمكن أن تستمدها من الماء العلوي الذي وردت بعض الآثار والأحاديث تشير إلى أن السماوات والأرضين خلقت من ذلك الماء، ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، المذكور أعلاه: (كل شيء خلق من ماء).

بعض آفاق الدقة والإحكام في خلق الكون:

جاء في تفسير البحر المديد حول الآية 3 من سورة النحل (انظر جدول 1) قوله: “(خلق السماوات والأرض بالحق) أي ملتبسا بالحق، على مقدار مخصوص، وشكل بديع”، وهذا المقدار المخصوص في خلق الأشياء والشكل البديع نراه من حولنا في جميع مخلوقاته عز وجل؛ وجاء في تفسير الطبري حول قوله تعالى في الآية 16 من سورة الأنبياء قوله: “(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين) قال قتادة: ما خلقناهما عبثا ولا باطلا”، فهذا الكون الواسع الكبير وما فيه من مسافات شاسعة بين مكوناته، وكل ما فيه من مكونات لم تخلق عبثا فكل شيء له وظيفة وكل شيء عنده بمقدار.

أما عن الآية 3 من سورة الملك (انظر جدول 1) فيقول تفسير القرطبي: “ما ترى في خلق السماوات من عيب، وأصله من الفوت، أي يفوت الشيء ويقع فيه الخلل”، فهذه الآية تؤكد أن السماوات السبع الطباق محكمة ومرفوعة دون عيب أو خلل، صحيح أن وسائل البحث البشرية لا تستطيع سبر أغوار تلك السماوات السبع الطباق كما قال عمري (2004): “بل عِلْمَيَّ الكون والفلك لم يتوصلا بعد لمعرفة شيء يذكر عن بناء السماوات السبع أو بناء الأرضين السبع”. إلا أن ما ورد في هذه الآية يؤكد لنا الإحكام في خلق السماوات السبع، كما أن الناظر إلى ما ورد في تفسير روح المعاني حول الآية 90 من سورة مريم: “يقال: إناء مفطور، ولا يقال ثوب مفطور بل مشقوق، وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السماوات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى (وتنشق الأرض) إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض”، ويرى كاتب هذه السطور أن مثل هذه الآوصاف والاستنتاجات التفسيرية يمكن أن تقدم وصفا مقبولا لعالم السماوات السبع الذي يعتبر من عوالم الغيب (ما عدا ما يدرسه علماء الكونيات من مجرات الكون المدرك)، فهذا الكون الكبير يقف شاهدا على عظمة الخالق عز وجل، وما يأتي في النصوص الشرعية عنه يعطينا أوصافا قليلة لكن تفسيرها يفتح آفاقا كثيرة لنا حتى نفهم ذلك العالم الغيبي العظيم.

المراجع:

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: أحمد بن عجيبة (1161- 1224هـ).

تفسير الطبري (224-310 هـ) جامع البيان عن تفسير آي القرآن.

تفسير القرطبي (ت 671 هـ) الجامع لأحكام القرآن.

روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني: شهاب الدين الألوسي (1217-1270 هـ).

عمري، حسين (2004): خلق الكون بين الآيات القرآنيّة والحقائق العلميّة، مؤتة للبحوث والدّراسات (سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة)، المجلد 19، العدد 4 ، ص 11 –41 .

مختصر تفسير ابن كثير: اختصار وتحقيق محمد على الصابوني، 3 مجلدات (1973م).

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.